حضور المحامي الابتدائي أمام محاكم الجنايات بين النص القانوني والعمل القضائي
تثار في الأوساط القانونية مسألة حضور المحامي الابتدائي أمام محكمة الجنايات، ورغم بساطة ظاهرها، إلا أنها تسببت في جدل كبير بين المحامين وبعض الهيئات القضائية. ويعود هذا الإشكال أساسًا إلى التداخل بين قواعد قانون الإجراءات الجنائية وقواعد قانون المحاماة، مما أدى إلى سوء فهم لدى البعض حول مدى مشروعية هذا الحضور وآثاره القانونية على صحة الحكم والدفاع وضمانات التقاضي.
وتأتي أهمية هذا الموضوع من زاويتين؛ الأولى تتعلق بحماية حق المتهم في الدفاع وتعيين من يختاره من المحامين، والثانية ترتبط بسلامة الإجراءات وعدم تعريض الأحكام لخطر البطلان أو النقض. لذا وجب توضيح الأساس التشريعي والفقهي والقضائي الذي استقر على حسم هذا الجدل.
أولًا: النصوص القانونية ذات الصلة
➤ تنص المادة ٣٧٧ من قانون الإجراءات الجنائية على ما يلي:
"المحامون المقبولون للمرافعة أمام محاكم الاستئناف أو المحاكم الابتدائية يكونون مختصين – دون غيرهم – بالمرافعة أمام محكمة الجنايات."
أما المادة ٣٧ من قانون المحاماة رقم ١٧ لسنة ١٩٨٣ فقد جاء بها:
"للمحامي المقبول أمام محاكم الاستئناف حق الحضور والمرافعة أمام محاكم الاستئناف وفروعها، والقضاء الإداري، والمحاكم العسكرية وما في مستواها، وسائر الهيئات ذات الاختصاص القضائي."
قد يُفهم من ظاهر النصين وجود تعارض، غير أن الفقه اعتبر أن نص قانون الإجراءات الجنائية هو النص الخاص المُقدَّم على قانون المحاماة بوصفه نصًا عامًا ينظم المهنة في مجملها.
ثانيًا: النقاط التفصيلية في ضوء الواقع العملي
١- إجازة قانون الإجراءات حضور المحامي الابتدائي: قانون الإجراءات قرر بوضوح أحقية المحامي الابتدائي في الحضور أمام الجنايات استنادًا إلى نص المادة ٣٧٧.
٢- قانون المحاماة وحدود تفسيره: قانون المحاماة في المادة ٣٧ ذكر أن من يحضر أمام محاكم الاستئناف والقضاء الإداري وما يعادلها هو محامٍ مقبول أمام الاستئناف، ولم ينص على استبعاد المحامي الابتدائي من الجنايات.
٣- الرأي الفقهي: يرى الفقه القانوني أن قانون الإجراءات هو الأصل الأَوْلى بالتطبيق فيما يتعلق بالحضور أمام الجنايات، لأنه نص خاص ومباشر، بينما قانون المحاماة ينظم المهنة بوجه عام.
٤- رأي محكمة النقض: استقرت محكمة النقض على أن حضور المحامي الابتدائي صحيح، ولا تبطل المحاكمة إلا إذا كان الحاضر محاميًا جزئيًا أو تحت التمرين.
٥- الجانب العملي أمام دوائر الجنايات: قد تعترض بعض الدوائر على حضور المحامي الابتدائي، فإذا سُجل هذا الاعتراض بمحضر الجلسة، أصبح الحكم مُعرّضًا للنقض للإخلال بحق الدفاع، حتى مع ندب محامٍ آخر، إلا إذا كان المحامي المختار هو من يعطل الفصل في الدعوى.
صياغة المادة ٣٧٧ وإشكال "دون غيرهم"
اللافت أن عبارة (دون غيرهم) الواردة في المادة ٣٧٧ أفرزت انتقادًا فقهيًا؛ إذ إنها تحصر المرافعة فيمن هم مقبولون أمام الاستئناف أو الابتدائي فقط، بما يعني – في ظاهر اللفظ – أن المحامين المقبولين أمام النقض لا يملكون حق المرافعة أمام الجنايات! وهو أمر غير منطقي، ويُفهم في ضوء السياق التشريعي وليس بمفهوم المخالفة الجامد.
مسائل دقيقة ذات أهمية عملية
🔹 أولًا: حضور محامٍ ابتدائي مع المتهم أمام الجنايات يُعد صحيحًا حتى لو كان مستبعدًا من الجدول لعدم سداد الاشتراك، طالما أنه مقيد ابتداءً بدرجة ابتدائي.
🔹 ثانيًا: حضور محامٍ من الجدول العام (جزئي) مع المدعي بالحق المدني أمام الجنايات لا يُبطل المحاكمة ولا يجعل الحكم مُهددًا بالنقض؛ لأن ضمانة درجة القيد شُرعت لصالح المتهم وحده، وليس لصالح المدعي بالحق المدني.
ثالثًا: الخلفية التحليلية والتطبيق العملي
الحضور أمام محكمة الجنايات ليس مسألة شكلية بل يرتبط بضمانات دستورية وحقوق الدفاع. وفي الوقت ذاته، لا يجوز التعسف في تفسير النصوص بما يُعطل دور المحامي المختار من المتهم أو ينال من سلامة الإجراءات. لذا فإن التفرقة بين محامٍ ابتدائي ومحامٍ استئناف يجب أن تُفهم في إطار تكامل النصوص لا تعارضها.
كما أن القضاء المصري بمختلف درجاته رسَّخ مبدأ أن "العبرة بالضمانة المتحققة لا بدرجة القيد وحدها"، مادام المحامي يؤدي دورًا فعليًا في الدفاع ولم يثبت قصور أو إهمال يضر بمركز المتهم أو يؤخر العدالة عمدًا.
الخاتمة
يتضح من العرض السابق أن إشكالية حضور المحامي الابتدائي أمام محكمة الجنايات ليست قائمة في القانون ذاته بقدر ما ترتبط أحيانًا بسوء القراءة أو التطبيق العملي. فالنص الخاص في المادة ٣٧٧ من قانون الإجراءات الجنائية هو الأساس في تحديد اختصاص المرافعة أمام الجنايات، ولا يجوز إهداره لصالح تأويل غير ملزم في المادة ٣٧ من قانون المحاماة.
كما أن محكمة النقض حسمت الأمر بتأكيدها صحة الحضور متى كان المحامي مقيدًا بدرجة ابتدائي على الأقل، وأن البطلان لا يتحقق إلا في حال حضور محامٍ تحت التمرين أو من الدرجة الجزئية مع المتهم. أما ما يتعلق بالمدعي بالحق المدني فلا مجال للبطلان بسبب درجة القيد.
وعليه، فإن كل محامٍ يجب أن يكون على دراية بوسائل إثبات اعتراضه في محضر الجلسة إذا مُنع من الحضور دون سند، لأن هذا المنع قد يُعرّض الحكم للنقض. وفي المقابل، فإن التزام المحامي بدوره المهني واحترام المحكمة وضبط الإجراء يضمن سلامة المحاكمة ويحمي حقوق المتهم والدفاع.
يهمنا تفاعلك